إذن فهناك أشياء قد حُرمت على اليهود لأنهم ظلموا، وهذه الآية الكريمة هي التي أوضحت أن الحق قد حرم عليهم هذه الأطعمة لظلمهم. ومعنى: {كُلَّ ذِي ظُفُر} أي القدم التي تكون اصابعها مندمجة ومتصلة، فليست الأصابع منفصلة، ونجدها في الإبل والنعام والأوز، والبط، وهذه كلها تسمى ذوات الظفر {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} يعني الشحم الذي على الظهر. أما (الحوايا) فهي الدهون التي في الأمعاء الغليظة {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ}. أي الشحم الذي يختلط بالعظم إن التحريم هنا لم يكن لأن هذه الأشياء ضارة، ولكن التحريم إنما كان عقابا لهم على ظلمهم لأنفسهم وبغيهم على غيرهم.
وأقول ذلك حتى لا يقول كل راغب في الانفلات من حكم الله ما الضرر في تحريم الأمر الفلاني؟ إن محاولة البحث عن الضرر فيما حرمه الله هي رغبة في الانفلات عن حكم الله. فالتحريم قد يأتي أدبا وتأديبا، ونحن على المستوى البشرى- ولله المثل الأعلى- يمنع الإنسان منا (المصروف) عن ابنه تأديبا، أو يمنع عنه الحلوى، لأن الابن خرج عن طاعة أمه، إذن كان التحريم جزاءً لهم وعقابا قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.. [النساء: 160-161].
وذلك هو الجزاء الذي أراده الله عليهم.
إن التشريع السماوي حينما يأتي لظالم يخرج عن منهج الله فكأنه يقول له ما هو القصد من خروجه عن منهج الله؟ لماذا يظلم؟ لماذا يأخذ الربا؟ لماذا يصد عن سبيل الله؟ لماذا يأكل أموال الناس بالباطل؟ إن الظالم يفعل ذلك حتى يمتع نفسه بشيء أكثر من حقه، لذلك يأتي التشريع السماوي ليفوت عليه حظ المتعة، وكان هذا الحظ من المتعة حقا وحلاًّ له، لكن التشريع يحرمه.
ومثال ذلك القاتل يحرم من ميراث من يقتله؟ لأن القاتل استعجل ما أخره الله وأراد أن يجعل لنفسه المتعة بالميراث، فارتكب جريمة قتل، لذلك يأتي التشريع ليحرمة من الميراث.
كأن التشريع يقول له: (ما دامت نيتك هكذا فأنت محروم من الميراث) والتشريع حين وضع ذلك إنما حمى كل مورث وإلا لكان كل مورث عرضة لتعدى ورثته عليه بالقتل لينتقل إليهم ما يملك، فقال: لا. نحرمة من الميراث وكذلك هنا نجد الظلم بأنواعه المختلفة، الظلم بإنكار الحق والصد عن سبيل الله، وأخذ الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، وما دام اليهود قد أدخلوا على أنفسهم أشياء ليست لهم فالتشريع يسلب منهم أشياء كانت حقا لهم.
وكان اليهود في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغبون ألا يُشاع عنهم هذا الأمر فقالوا: إن هذا الطعام محرم على بني إسرائيل. وبعد ذلك وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا اللون من الطعام حلال في التوراة، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي فضحهم.
ولماذا تجيء هذه الآية بعد قوله الحق في الآية السابقة: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}؟ ونحن نعرف أن آية {لَن تَنَالُواْ البر} قد جاءت بعد آية توضح النفقة غير المقبولة من الله. ولنذكر ما قلناه أولا، عن تداعي المعاني في الملكات الإنسانية: إن في النفس الإنسانية ملكة تستقبل، فتتحرك ملكة أخرى، وحين يقول الحق: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} فالذين يسمعون هذا سينفعلون انفعالات مختلفة، فالشبعان من الناس لن يلتفت إلى هذه المسألة بانتباه بالغ، ومن عنده بعض الطعام فإن نفسه قد تتحرك إلى ألوان أخرى من الطعام، أما من ليس عنده طعام فلسوف يلتفت بانتباه شديد ليتعرف على الحلال من الطعام والحرام منه.
إذن فقبل أن يأتي الله بالحكم الذي يحلل ويحرم، هذا الحكم الذي يثير عند الجائع شجن الافتقار وشجن ذكر الطعام الذي يسيل له لعابه، إن الحق قبل أن يحرك معدما على غير موجود معه، فإنه يحرك معطيا على موجود معه، لذلك فقبل أن يأتي الحق سبحانه ويذكر الطعام، وقبل أن يُقلب الأمر على النفس الإنسانية التي لا تجد طعاما، نجد الرسول قد نطق قبلها بما أنزله عليه الحق {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}. فبتداعي المعاني في النفس الإنسانية يكون سبحانه قد حرك ملكة واجدة ومالكة قبل أن يحرك ملكة معدمة. وهكذا يكون التوازن الذي أراده الله في الكون المخلوق له.
إنه رب يحكم كونه، فلا ينسى شيئا ويذكر شيئا. {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} إن كل شيء في علمه كما قَدّره وهو الخلاق القدير العليم، وهو لا يذكر بعضا من الخلق، وينسى بعضا آخر، فهو قد كتب العدم لحكمة، وأعطى النعمة لحكمة.
لقد جعل الفقير عبرة، ولكنه لم يتركه، وذلك حتى يرى كل إنسان أن القدرة على الكسب ليست إلا عرضا زائلا، فمن الممكن أن يصبح القادر الآن عاجزا بعد دقائق أو ساعات، ومن الممكن أن يصبح القوي ضعيفا، فإذا ما علم القوى أو القادر ذلك فإنه يتحرك إلى إعطاء الآخرين؛ حتى يضمن لنفسه التأمين الإلهي لو صار ضعيفا، فيعطيه الأقوياء، فعندما يأمر الله الأقوياء بأن يعطوا وينفقوا فإن عليهم إن يستجيبوا؛ لأن الواحد منهم لو صار ضعيفا فسوف يأخذ.