وقال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله: ” يعني: أنه تحصل له عقوبة في الدنيا والآخرة، فيجمع له بين العقوبة الدنيوية والأخروية، حيث يجعل له الله العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة، فيجمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، والضرر الذي يحصل في الدنيا، والضرر الذي يحصل في الآخرة .
وهذا يدل على عظم وخطورة شأن البغي وقطيعة الرحم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن صاحبهما جدير بأن يحصل له هذا وهذا، وأن يجمع له بين هذا وهذا، وهذا يدل على خطورة أمر البغي وقطيعة الرحم” انتهى من “شرح سنن أبي داود” (28/ 167) ترقيم الشاملة.
فالحاصل : أن كون العقوبة الدنيوية خيرا للعبد لأنها تكفر ذنبه، ليست عامة في كل الذنوب، بل من الذنوب ما تجتمع فيه العقوبتان، ولا تكون الأولى مسقطة للثانية إلا أن يشاء الله .
على أننا ننبه هنا إلى أن العبد ليس له أن يتمنى من الله أن يعاقبه بذنبه في الدنيا ، ولا أن يدعو الله بذلك ، بل يطمع في عفو الله وفضله ، وأن يرزقه العفو والعافية والمعافاة ، في الدنيا والآخرة؛ وفضل الله واسع ، ولا قبل لأحد بعذاب الله ، فلا يستفتحن العبد على نفسه ، ولا يتعجل البلاء ، ولا يتمناه ؛ فإنه لا يدري ما يكون حاله فيه .
روى مسلم في صحيحه (2688) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” سُبْحَانَ اللهِ لَا تُطِيقُهُ – أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ – أَفَلَا قُلْتَ: اللهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ” قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُ، فَشَفَاهُ.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله :
” فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ تَقْبَلُونَ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ قَدْ رَوَيْتُمْ عَنْهُ .. ”
فذكر الحديث الأول :
” عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ” إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا , وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ شَرًّا أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفِّيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “.
قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ , فَلِمَ لَحِقَ اللَّوْمُ مَنْ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا لِيَسْلَمَ مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ؟ ” .
قال الإمام الطحاوي رحمه الله :
” فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ: أَنَّ الَّذِي ذَكَرَ مِنَ الْحَدِيثِ الثَّانِي كَمَا ذَكَرَ , وَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ , غَيْرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَارَ لِأُمَّتِهِ إِشْفَاقًا عَلَيْهِمْ , وَرَحْمَةً لَهُمْ , وَرَأْفَةً بِهِمْ , أَنْ يَدْعُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمُعَافَاةِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا مِثْلُ ذَلِكَ الرَّجُلِ فِيهِ , وَأَنْ يُؤْتِيَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ , وَهَذِهِ الْحَالُ فَهِيَ أَعْلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا , فَبَانَ بِحَمْدِ اللهِ أَنْ لَا تَضَادَّ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ , وَلَا اخْتِلَافَ , وَاللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ ” انتهى ، من “تأويل مشكل الآثار” (5/291-292) .
والله أعلم.